حق الأب في الاستضافة: هو الجسر الذي يربط الأبناء بآبائهم في مصر، فهل هذا الجسر موجود؟
في عالم تتزايد فيه حالات الانفصال الأسري، يصبح ضمان استمرارية العلاقة بين الأطفال ووالديهم غير الحاضنين أمرًا حيويًا. ففي مصر، يتجاوز “حق الاستضافة” مجرد الرؤية التقليدية ليصبح دعامة أساسية لنمو الطفل النفسي والعاطفي، ويؤكد على الدور الحيوي لكلا الوالدين بعد الانفصال.
من الرؤية إلى الاستضافة: من منظور الفقه والقضاء
لفترة طويلة، ركز القانون المصري للأحوال الشخصية على حق الرؤية للوالد غير الحاضن، والذي كان يقتصر غالبًا على ساعات قليلة أسبوعيًا في أماكن عامة، وفي الغالب ثلاث ساعات يوم الجمعة من كل اسبوع باحد مراكز الشباب او الاندية العامة، لكن هذا التضييق لم يكن كافيًا لبناء رابطة قوية وعميقة بين الطفل وأبيه، فالرؤية العابرة لا تتيح للأب المشاركة في تفاصيل حياة طفله اليومية، ولا تمكن الطفل من الشعور بالأمان والراحة في بيئة والده، مما انعكس ذلك سلبًا واظهر مشكلات اثناء تنفيذ الرؤية وكثرا من الفيديوهات علي مواقع التواصل الاجتماعي توضح ما ترصده كاميرات المراقبة من مشكلات اثناء تنفيذ الرؤية بمراكز الشباب والأندية المخصصة لذلك.
ومع مرور الوقت وتغير المفاهيم، أدركت المحاكم والمشرعون أن مصلحة الطفل الفضلى تتطلب أكثر من ذلك، بدأ الفقه والقضاء المصري في التوسع، مستلهمين من مبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على صلة الأرحام، ومن مبادئ القانون الطبيعي والعدالة، وأيضًا الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. وهكذا، برز مصطلح الاستضافة، ليمنح الوالد غير الحاضن (غالبًا الأب) الحق في مبيت طفله لديه لفترات أطول، مما يمكنه من ممارسة دور أبوي أكثر شمولًا وعمقًا. هذا التطور القضائي يعكس وعيًا متزايدًا بأن مصلحة الطفل تتجاوز الدعم المادي أو اللقاءات العابرة، لتشمل الدعم النفسي، بناء الذكريات المشتركة، والشعور بالانتماء لكلا الطرفين من العائلة.
الاستضافة في الفقه الإسلامي: لا حرمان
من المهم الإشارة إلى أن جميع الشرائع السماوية، بما فيها الفقه الإسلامي، لم تحرم الأب من استضافة ابنه أو ابنته، بل على العكس يؤكد الفقه الإسلامي على أهمية صلة الرحم وضرورة المحافظة على الروابط الأسرية، وحق الأب في التواصل المباشر والمكثف مع أولاده يُعد جزءًا لا يتجزأ من مفهوم “الولاية على النفس” وإن انتقلت الحضانة إلى الأم، والفتاوى والمذاهب الفقهية المختلفة، وإن تباينت في تفاصيل الضوابط، تتفق على أن منع الأب من استضافة أبنائه بشكل كامل يتعارض مع مبادئ العدل ومقاصد الشريعة في الحفاظ على الأنساب والألفة بين الأقارب، فالاستضافة تُعزز من دور الأب في التوجيه والتربية والإنفاق المعنوي، وتتيح للطفل التعرف على بيئة والده وأسرته الممتدة، وهو ما يُعد مصلحة محققة للطفل من منظور شرعي.
دور الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل ودعمها للاستضافة
تُعد الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1989 وأصبحت نافذة في مصر منذ سبتمبر 1990، ركيزة أساسية تدعم حق الاستضافة، فهي تهدف إلى حماية حقوق الأطفال وضمان نموهم الشامل في بيئة صحية.
من أبرز المواد التي يمكن الاستناد إليها في دعم حق الاستضافة:
- المادة 3 (مصلحة الطفل الفضلى): تنص على أن “تكون مصالح الطفل الفضلى محل الاعتبار الأول في جميع الإجراءات التي تتخذ بشأن الأطفال”. هذا المبدأ يدعم التوسع في الرؤية ليشمل الاستضافة إذا كانت في مصلحة الطفل.
- المادة 7 (حق الطفل في معرفة والديه ورعايتهما): تؤكد على أهمية دور كلا الوالدين في حياة الطفل.
- المادة 9 (حق عدم الفصل عن الوالدين): تدعم حق الطفل في الحفاظ على الصلة بكلا والديه بعد الانفصال.
- المادة 18 (مسؤولية الوالدين المشتركة): تشجع على مشاركة الأب الفعالة في حياة الطفل، والتي لا يمكن تحقيقها بشكل كامل بمجرد الرؤية.
وبالتالي، توفر الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا قويًا يدعم حق الأب في الاستضافة، بوصفه وسيلة أساسية لضمان نمو الطفل في بيئة متوازنة يشعر فيها بحب ورعاية كلا الوالدين، وهو ما أضحته العديد من الأحكام المنصفة لحق الاب في الاستضافة.
الاستضافة: أركانها القانونية وأبعادها الإنسانية
على الرغم من غياب نص تشريعي مباشر وشامل للاستضافة في قوانين الأحوال الشخصية المصرية حتى الآن، إلا أن المحاكم قد أرست معايير ثابتة للحكم بها بناءً على الاجتهاد القضائي ومبادئ العدالة:
- المصلحة الفضلى للصغير: حجر الزاوية هذا هو المعيار الأسمى الذي لا تحيد عنه المحاكم. يجب على الأب أن يثبت أن الاستضافة ستحقق فائدة حقيقية ومباشرة لمصلحة الطفل النفسية، العاطفية، والاجتماعية. بمعنى أن الاستضافة ليست حقًا مطلقًا للأب، بل هي حق للطفل في أن يحظى برعاية وتوجيه أبيه في بيئة منزلية مستقرة، تضمن له الشعور بالأمان والانتماء.
- أهلية الأب وقدرته على الرعاية: يجب أن يثبت الأب قدرته على رعاية الطفل خلال فترة الاستضافة وتوفير بيئة مناسبة وآمنة له، يشمل ذلك الجانب المادي والنفسي، والتأكيد على أن الأب ملتزم بواجباته المالية تجاه الطفل (كالنفقة)، وهذا دليل على حرصه واستعداده لتحمل المسؤولية.
- عمر الصغير ومدى تقبله: عادة ما تُراعى عمر الطفل عند الحكم بالاستضافة. فالأطفال الصغار جدًا قد يتأثرون نفسيًا بالانتقال المتكرر أو المبيت بعيدًا عن الحاضنة، أما الأطفال الأكبر سنًا، فغالبًا ما تكون الاستضافة ضرورية لتعزيز هويتهم وتوازنهم النفسي، ومن وجهة نظري أن تبدأ الاستضافة منذ ان يستطيع الأطفال التعبير عن رأيهم ومشكلاتهم وهذا هو الادراك الاجتماعي للطفل والذي يجب أن يكون والده معه فيه.
- تعهدات وضمانات: تلتزم المحكمة غالبًا بأخذ تعهدات من الأب بضمان إعادة الطفل إلى حاضنته في المواعيد المحددة، وذلك لتبديد أي مخاوف تتعلق بإساءة استخدام الحق في الاستضافة، وأن يكون هناك جزاء يصل الي حد الحرمان فترة من الاستضافة وفي حالة تكرار الامر يكون الحرمان الدائم.
الاستضافة البديل الآمن والصحي للرؤية
من الأخطاء الشائعة الخلط بين الرؤية والاستضافة، أو اعتبارهما متناقضين، في الواقع الاستضافة من وجهة نظري هي تطوير وتعميق لحق الرؤية، وهي تهدف إلى:
- بناء روابط أسرية حقيقية: تتيح الاستضافة للأب والطفل فرصة أكبر للتفاعل بعيدًا عن الأجواء الرسمية لمراكز الرؤية، مما يسمح ببناء ذكريات مشتركة، وممارسة الأنشطة اليومية معًا.
- تعزيز الدعم النفسي: وجود الأب بشكل منتظم في حياة الطفل، ومشاركته تفاصيله، يمنح الطفل شعورًا بالاستقرار النفسي والأمان، ويقلل من آثار الانفصال السلبية.
- دور الأب في التنشئة الشاملة: تُمكّن الاستضافة الأب من المساهمة الفعالة في جوانب التنشئة التي تتجاوز الدعم المالي، مثل متابعة دراسة الطفل، واختيار بيئته التعليمية، ومشاركته هواياته.
هذه الأمور غير موجودة في الرؤية وتقف الرؤية عاجزة عن تحقيقها ومن ثم فالحاجة ملحة للإستضافة.
الحاجة الملحة للاستضافة وفقا للواقع المرير الذي يمر به الآباء في مصر.
في الواقع المصري، يعاني العديد من الآباء من قصور حق الرؤية الحالي في تمكينهم من ممارسة دورهم الأبوي الكامل، فكيف يمكن للأب أن يعلم ابنه ركوب الدراجة، أو يشاركه الأعياد والمناسبات الهامة، أو حتى يختار معه أدواته المدرسية أو لعبته الجديدة، في بضع ساعات من مكان عام ونطاق محدد؟! هذه اللحظات البسيطة هي جوهر بناء العلاقة الأبوية، وهو ما يدعونا الي تطبيق الاستضافة بدلًا من الرؤية.
على الجانب الآخر، قد يجد الطفل نفسه محرومًا من جزء كبير من هويته وانتمائه العائلي، حيث لا يتاح له المبيت في منزل والده، التعرف على اجداده من الاب و اخواته من الاب و أعمامه وعماته، أو قضاء أوقات طبيعية معهم، وهذه الظروف تخلق فجوة عاطفية قد تؤثر سلبًا على نموه النفسي والشعور بالأمان والاستقرار، فيجب أن ينشأ في بيئة سوية يحترك أفرادها البعض وأن يزداد المحبين حوله.
التحديات ومقترح تشريعي
وفقا لما تقدم وعلى الرغم من التقدم في مفهوم الاستضافة، لكن لا تزال هناك تحديات، وأهمها الحاجة الماسة إلى تشريع واضح وصريح ينظم حق الاستضافة بشروطه وضوابطه وآليات تنفيذه السابق بيانها، لتقليل التباين في الأحكام وتسهيل الإجراءات على الأطراف وتقليل الحرمان خصوصا للأطفال وتقديمًا لمصلحة الاطفال الفطلي، وفي حالة وجود التشريح الواضح سيزداد الوعي المجتمعي بأهمية هذا الحق في تحقيق المصلحة الفضلى للطفل، بعيدًا عن الصراعات بين الوالدين.
مقترح تشريعي: ندعو إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية المصري ليشمل نصًا صريحًا وواضحًا لـحق الاستضافة، على أن يتضمن هذا النص:
- تعريفًا محددًا للاستضافة يختلف عن الرؤية، ويكون بديلا سويا عنها ومسارًا طبيعي وتطور بعدما فشلت الرؤية في أن تخلق توازن نفسي للأطفال وخصوصا انها كانت بيئة لصراعات الوالدين وكانها تصفية حسابات.
- ضوابط واضحة للمدة والمواعيد، مع مراعاة عمر الطفل وحالته النفسية (كالمبيت ليلة أو ليلتين أسبوعيًا، وفي فترات الأعياد ومدة أطول في العطلة الدراسية كل عام).
- تحديد آليات تنفيذ واضحة، تضمن تسليم وتسلم الطفل بسلاسة وأن تتحول مراكز الرؤية الحالية لإثبات التسليم والتسلم فقط، مما يجنب الصراعات بين الوالدين، وأن تتشكل لجنة لفحص المشكلات بحيادية مع مراعاة مصلحة الأطفال الفضلي، وفي حالة وجود أي خطأ يرفع الأمر الي المحكمة المختصة.
- توضيح العقوبات التي تطبق في حال الامتناع عن تنفيذ حكم الاستضافة، لضمان فعاليته مع مراعاة ما سبق وقد أشارنا سابقًا إلي تعهد الواد غير الحاضن بعودة الصغير وفي حالة التقصير يكون بحرمانة مؤقتًا ثم في حالة التكرار يكون الحرمان الدائم وان تكون الؤية هي البديل، أما في حالة التقصير من جانب الحاضن او الحاضنة يكون للقاضي أن ينقل الحضانة الي طالب الاستضافة لمدة معقولة واذا تكرر الأمر يكون بزيادة المدة وان تكرر الامر للمرة الثالثة يكون نقل الحضانة الي الطرف الأخر بشكل دائم، مع اعطائه حق الاستضافة اولا وفي حالة الخالفة تكون الرؤية هي البديل.
- التأكيد على دور الأخصائي الاجتماعي والنفسي في تقديم التقارير التي تدعم قرار المحكمة بما يحقق مصلحة الطفل الفضلى.
في الختام، نناشد المشرع المصري للنظر الي مصلحة الطفل الفضلي وفقًا لمقترحنا المقدم، خصوصًا أن حق الأب في الاستضافة سيحقق نقلة نوعية في المحتمع المصري، فهو ليس مجرد حق لأب يرغب في رؤية ابنه، بل هو حق للابن في أن يحظى بوجود أبيه الحنون والداعم في تفاصيل حياته، وهو سعي نحو تحقيق التوازن، وإعادة بناء الجسور العاطفية، وضمان نشأة جيل يتمتع بالاستقرار النفسي والاجتماعي، رغم ظروف الانفصال.
وكم نتمنى أن يرى هذا الحق النور في تعديلات قانونية قادمة تمنح الأبناء حقهم الأصيل في الاستضافة، ليعيشوا حياة كريمة لا ينقصها وجود أي من والديهم، وان تزداد دائرة المحبين حولهم.
للتواصل معنا
📞 01028134004
📍 العنوان: قطور المحطة - شارع المحكمة - مقابل الشهر العقاري - الدور الرابع علوي بالبرج الاداري - مركز قطور - محافظة الغربية